تحدّيات جديدة أمام حركة التّضامن مع فلسطين في تونس

"والواقع أنّ دعم إسرائيل آخذ في الانحسار في الولايات المتّحدة وأوروبا، خاصّة لدى جيل الألفية؛ وعلى عكس ذلك التطّور الإيجابي، يشهدُ دعم القضيّة الفلسطينية في العالم العربي تآكلا منذ عقد من الزّمن. وإذا نظرنا إلى الظّاهرة من منظور تاريخي في المستوى التّونسي، يتبيّن لنا وجوب تغيير مرجعية التّضامن مع فلسطين: وأقلّ ما يُقال في الأمر إنّ التّضامن مع القضيّة مُهَدَّدٌ أصلا في تونس وفي جزء من العالم العربي".

نُشر هذا المقال بتاريخ 9/8/2020، للباحث أحمد عبّاس، وهو باحثٌ في الرياضيات ومدير بحوث بباريس، ومنسّق الحملة التّونسيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل (TACBI)، وأمين الجمعيّة الفرنسيّة للجامعيين من أجل احترام القانون الدّولي في فلسطين (AURDIP). وقد ترجم المقال من الفرنسية الشاعر علي اللواتي، عضو الحملة التّونسيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل. كما نُشر المقال على موقع انحياز.

-----

إلى رفقائي رامي شعث ومحمد المصري

أعضاء حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وتسليط العقوبات عليها BDSــ مصر 

اللذين يقبعان في سجن طرة بأمر نظام الدّكتاتور السّيسي

من أجل دفاعهما على الحقوق الثّابتة للشّعب الفلسطيني ونضالهما ضدّ التّطبيع مع إسرائيل

كثيرون من داعمي إسرائيل دون قيد أو شرط، ممّن يتظاهرون برفض مخطّط نتنياهو لضمّ أجزاء هامّة من الضّفّة الغربية، لا تهمّهم أبدا الحقوق الثّابتة للشّعب الفلسطيني وإنّما يساورهم الخوف من أن تهدم عمليّة الضّمّ المرتَقَبة صورة إسرائيل نهائيّا لدى الرّأي العام الغربي. والواقع أنّ دعم إسرائيل آخذ في الانحسار في الولايات المتّحدة وأوروبا، خاصّة لدى جيل الألفية؛ وعلى عكس ذلك التطّور الإيجابي، يشهدُ دعم القضيّة الفلسطينية في العالم العربي تآكلا منذ عقد من الزّمن. وإذا نظرنا إلى الظّاهرة من منظور تاريخي في المستوى التّونسي، يتبيّن لنا وجوب تغيير مرجعية التّضامن مع فلسطين: وأقلّ ما يُقال في الأمر إنّ التّضامن مع القضيّة مُهَدَّدٌ أصلا في تونس وفي جزء من العالم العربي.  

1 ـــ معاهدة أوسلو : "ثاني أكبر انتصار للصّهيونية"

لقد بات واضحًا أنّ "عمليّة السّلام في الشّرق الأوسط" قد ماتت وقُبِرَتْ. ظلّت تحتضر منذ بضع سنين إلى أن أجهز عليها الرّئيس الأمريكي ترامب في نهاية يناير بإعلانه عمّا يسمّى بــِ"صفقة القرن". ويستعدّ رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو لإقامة مأتم رسمي لها بضمّ جزء هامّ من الضّفّة الغربية؛ وقد لاقى هذا المشروع إدانة واسعة عبر العالم، وممّن أدانوه مسئولون سياسيون ومثقّفون من صهاينة اليمين أو اليسار، اشتهروا بدعمهم غير المشروط لإسرائيل. وقد كتب روبرت ساتلوف، القائم على "معهد واشنطن للسّياسة حول الشّرق الأوسط"، وهو فريق تفكير لدعاة الحرب الصّهاينة، مقالا بصحيفة "واشنطن بوست" عنوانه "أنا صهيونيّ متحمّس غير أنّي ضدّ عملية الضّمّ". أمّا المؤرّخ التّونسي الحبيب القزدغلي، وهو بمثابة كمبارس لساتلوف، فقد اكتفى بأن ينقل إلى صفحته بالفيسبوك ملفّا حول الموضوع طبخته "فرانس أنفو" (France-info) وهي إذاعة معروفة بانحيازها لإسرائيل. وقد كتب ما يلي : "ستقرأون في هذا الملفّ كلّ ما ينبغي معرفته حول مشروع غير قانوني لضمّ 30 % من الضّفّة الغربية […] وكيف يهدم ذلك المُخطّط الأحادي الأمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلّة مهدّدا بذلك حظوظ السّلام في منطقة الشّرق الأوسط".  إنّ تلك الأقوال المكرّرة المضجرة وتلك المحاكاة الممجوجة إنّما تعود في الأقلّ إلى قصور البصيرة، وفي الأكثر، إلى النّفاق حيث بدا واضحا منذ زمن اندراج مخطّط نتنياهو ضمنيّا في معاهدة أوسلو التي دعمها أولئك المثقّفون وقدّموها على أنّها "عملية سلام" طيلة ثلاثة عقود.

ومنذ اليوم التّالي لتوقيع معاهدة أسلو في 3 سبتمبر 1993 ، نبّه بعضهم ممّن هم أكثر إحاطة بالنّزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني، إلى طبيعتها غير المتعادلة وما فيها من غبن واضح للفلسطينيين. وقد نشر إدوارد سعيد في أكتوبر 1993 تحليلا للمعاهدة بمستوى عال من التّبصّر، منتقدا إيّاها بشدّة، مطلقًا عليها وصف "مخطّط آلون معدّل"(1) و"أداة الاستسلام الفلسطيني" و "فرساي (Versailles) فلسطينية" وفي الطّرف الآخر وفي حديث لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) صرّح الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز المحسوب عادة على الحمائم  إنّ تلك المعاهدة هي "ثاني أكبر انتصار في تاريخ الصّهيونية".

أمّا تانيا رينهارت عالمة اللّسانيات الإسرائيليّة المناهضة للصّهيونية فهي من الذين كانوا أكثر إدراكًا للانحرافات الخبيثة المـُضَمَّنة في معاهدة أوسلو التي حلّلتها في نصوص حملت توقّعات بالمستقبل. وفي أعقاب معاهدة أريح ــ غزّة الموقّعة بالقاهرة في 4 مايو 1994 (التي أعطت للسّلطة الوطنية الفلسطينية صلاحيات جدّ محدودة)، كتبت تانيا رينهارت (2): "في خلال الأسابيع الأخيرة حاول معارضون كثيرون للاحتلال الإشارة إلى التّشابه بين نهاية "الأبارتهايد" في جنوب إفريقيا وبين معاهدة أريح ــ غزّة. غير أنّ معاينة الوقائع، وبصرف النّظر عن العواطف والآمال، تشير إلى أنّ المعاهدة مع منظّمة التّحرير الفلسطينية أشبه ببداية "الأبارتهايد" منها بنهايته. فقانون 1959 الذي شرّع لاستقلال شعوب البانتو (Bantous) صودق عليه في جنوب إفريقيا تأسيسا للفصل (apartheid) بين البيض والسّود. فقد أُعلنت المحميّات المُسندة إلى السّود كيانات مستقلّة وعرفت بمسمّاها العامّ : بانتوستانات".

وبعد ثماني سنوات، في العام 2002، عادت تانيا رينهارت لتأكيد رأيها إذ كتبت (3): "منذ بداية عملية أوسلو في 1993، كان هناك تصوّران متضاربان لدى الأوساط السّياسية والعسكرية الإسرائيلية. الأولى يدعمها يوسّي بيلين وتنزع إلى تطبيق صيغة للحلّ القديم الذي عرضه الحزب العمّالي (مخطّط ألّون) المتمثّل في ضمّ نحو 30 % من الأراضي المحتلّة وإعطاء الفلسطينيين درجةً ما من تقرير المصير فيما يتعلّق بالبقيّة؛ غير أنّ الطّرف المعارض استكثر ذلك. وتركّزت معارضة معاهدة أسلو في جانب العسكريين ـــ وكان النّاطق باسمهم الأكثر ضراوة إيهود باراك ــــ  وفي الفلك السّياسي لشارون. وقد كان شارون وباراك ينتميان إلى سلالة من الجنرالات السّياسيين تغذّيهم أسطورة بن غوريون ومضمونها الفداء أو الخلاص باستعادة الأرض؛ ومثلما ردّدوا ذلك في السّنة الماضية، ’فإنّ حرب 1948 لم تنته بعد‘ ".

ولئن تظاهر عدد من الصّهاينة، ومنهم الأشدّ عتوّا، برفض مخطّط نتنياهو للضّمّ، فذاك لأنّه قد يودي بما بقي من مناصرة لإسرائيل وتعاطف معها في العالم الغربي. فقد خفت بريق ما لإسرائيل من سمعة في الولايات المتّحدة وأوروبا، حيث كان يُنْظَرُ إليها من قبل كـ "ديمقراطية ملتزمة بالتّفاوض من أجل السّلام"؛ والآن تبدو أكثر فأكثر كمنظومة "أبارتهايد" واستعمار وظلم، وذلك في الغالب بتأثير من الحركة العالمية الدّاعية إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وتسليط العقوبات عليها (BDS) التي انطلقت سنة 2005.

وقد باتت الجامعات الأمريكية خلال السّنوات الأخيرة السّاحة الرّئيسية لمعركة الرّأي التي أطلقتها BDS . نشر روبرت ساتلوف سنة 2015 شريط فيديو دعائي ضدّ الفلسطينيين عنوانه : "كيف تبحر عبر السّياسة الإسرائيلية في الجامعات : نصائح ولي"، روّج فيه لافتراءات على حركة BDS، داعيا الطّلبة الأمريكيين إلى التّبليغ عن أساتذتهم المنخرطين فيها أو المناصرين لها. 

غير أنّ الدّعاية الصّهيونية فشلت كما دلّ على ذلك مقال جيّد نُشِرَ مؤخّرا في صحيفة "هارتس" عنوانه "عندما وصفت ابنتي إسرائيل بأنّها دولة "أبارتهايد" اعترضت على ذلك، أمّا الآن فلست متّحقّقا من اعتراضي"، والمقال كُتِب بالاشتراك بين آلن فاينر (َAllan Weiner) المحاضر الأول في القانون ومدير برنامج القانون الدّولي المقارن بجامعة ستانفورد وبين ابنته كاتي فاينر (Katie Weiner)، المتخرّجة منذ وقت قريب من جامعة هارفارد. ويُطلق الأب في هذا المقال رسالة فزع في اتّجاه رئيس الحكومة نتنياهو قائلا : "في ظلّ الضّم وهو تجسيد لانتصار القوّة على العدل والقانون الدّولي، تعوزني الحجج المضادّة، وهكذا نرى إسرائيل وهي تخسر أمريكا".

والواقع أنّ سبرًا للآراء أجراه معهد غالوب (Gallup) سنة 2019، يُظهر أنّ الدّعم لإسرائيل آخذ في الانحسار لدى جيل الألفية في الولايات المتّحدة، حيث 17 % فقط من الأمريكيين ممّن سنّهم بين 18 و 34 سنة (قارن هنا بالـــ 36 %  ممّن عمرهم فوق 55 سنة) عبّروا عن رأي "مؤيّد جدّا" لإسرائيل. وصرّح أكثر من ثلث من الأمريكيين ممّن هم دون 35 سنة أن لهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل. والأمر أكثر وضوحًا بين الديمقراطيين، خاصّة منهم الشّباب. وليس من بينهم سوى 13 % لهم رأي "مؤيّد جدّا" لإسرائيل مقابل 43 % من الجمهوريين.

وعلى عكس ذلك التطّور الإيجابي في الرّأي العام الأمريكي والغربي على نحو أعمّ، يشهد دعم القضيّة الفلسطينية في تونس انجرافا مستمرّا منذ عقد من الزّمن. ولنتساءل لماذا ؟

2 ــــ تنافر أصوات مستمرّ 

كانت تونس المرحلة الأخيرة من ترحال منظّمة التّحرير الفلسطينية بعد طردها من بيروت في العام 1982 وقبل عودتها إلى فلسطين في إطار معاهدة أسلو في تمّوزـــ يوليو 1994. وقد قال محمود درويش الذي واكب جميع تلك المراحل، وهو يودّع تونس : "إنّنا ننطلق من حضنها إلى أوّل مأوى بالفِناء الخلفي للوطن". لم يتحوّل ذلك المأوى ــ للأسف ــ إلى بيت لائق؛ ولم يحظ الشّعب الفلسطيني بحياة إنسانيّة حرّة ضمن دولة تليق بتطلّعاته المشروعة. وعن سؤال أحد الصّحافيين له لمَ تهدّج صوته بالبكاء عند إلقاء قصيدته، أجاب : "تحتلّ تونس مكانة خاصّة في ضمير كلّ فلسطيني ليس فقط للحفاوة والضّيافة التي وفّرها لنا التّونسيون وإنّما أيضا لأنّ تونس البلد الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين". غير أنّ هذه الحقيقة التي لا شكّ فيها، تخفي في الواقع  تنافرًا دائما بين الولاء للغرب كما يعلنه القادة وبين الحسّ العروبي الاحتجاجي لدى المجتمع والذي يبلغ ذروته كلّما تعلّق الأمر بالنّزاع الإسرائيلي ــ العربي.

وقد كشف (4) ميشيل لاسكييه الأستاذ بجامعة بار ــ إيلان الإسرائيلية في بداية العام 2000 أنّ تونس وإسرائيل كانت لهما اتّصالات منتظمة والنّزاع الإسرائيلي ــ العربي على أشدّه ما بين سنتي 1950 و 1970. وفي 25 جوان 1952، أي أربع سنوات قبل استقلال تونس، التقى الباهي الأدغم أحد المقرّبين للزّعيم الوطني ورئيس تونس المقبل الحبيب بورقيبة، جيديون رافائيل عضو الوفد الإسرائيلي في الأمم المتّحدة، والتمس دعما إسرائيليّا لاستقلال تونس في مقابل التزام الوطنيين التّونسيين بتسهيل هجرة اليهود إلى إسرائيل والعمل داخل العالم العربي لصالح الاعتراف بها. ويشير الهدف المنشود بوضوح إلى العشي الاستراتيجي للزّعيم وعلى جهله بالصّهيونية. ويُظهر ما كشفه لاسكييه أنّ الحوافز الرّئيسيّة لبورقيبة لم تكن الدّفاع عن الحقوق الثّابتة للشّعب الفلسطيني أو السّعي إلى إحلال السّلام بالمنطقة وإنّما الدّافع له بعض الإحساس بالغيرة، أو لنقل غيرةٌ مؤكّدة من الزّعيم المصري جمال عبد النّاصر، والبحث لتونس عن فوائد اقتصادية ومالية متواضعة؛ أمّا خليفته زين العابدين بن علي فقد لعب في بداية حكمه (1987 ــ 1990) ورقة العروبية الانفعالية ليستميل الشعب التونسي، قبل أن يواصل سياسة سلفه التّطبيعية. فكان تقديمه لِشواهد مطمئنة للقوى الغربية بخصوص إسرائيل أفضل طريقة لشراء صمتها عن إدارته الاستبدادية للبلاد وعن التّجاوزات والخروقات التي ارتكبها نظامه، وذلك هو النّموذج التي تسير عليه الدّكتاتوريات العربية الحالية.

3 ـــ معاهدة أسلو : نعمة من السّماء لبن علي

في شهر نيسان ــ أبريل 1995، جاء في تقريرٍ للجنة الشّؤون الخارجية بمجلس النّواب الأمريكي ما يلي (5):

"أعلنت تونس وإسرائيل يوم 3 أكتوبر 1994 إقامة علاقات دبلوماسيّة منخفضة المستوى، وهي خطوة يصفها البَلَدان كمرحلةٍ أولى على طريق تطبيع علاقاتهما. وسيفتحان مكاتب اتّصال اقتصادي في سفارتي بلجيكا بكلّ منهما. وقد قاد المدير العام المساعد بوزارة الشّؤون الخارجية يواف بيران وفدا إسرائيليا إلى تونس في شهر يناير لمناقشة افتتاح بعثة إسرائيلية؛ كما أنّ هناك خطوط اتّصال لاسلكية و بريدية يجري النّقاش بشأنها بين تونس وإسرائيل.

والتقت مجموعة من الصّناعيين الإسرائيليين في يناير بتونس ممثّلين عن الحكومة التّونسية ومصرفيين واختصاصيين في المالية ومصنعين. كما ضمّ الوفد رجال أعمال أمريكيين منهم ممثّلون عن شركات "ميريل لينتش (Merrill Lynch) و"سميث بارني" (Smith Barney) و" أوبنهايمر إنفستمنتس" (Oppenheimer investments). وقاد وزير البيئة يوسي ساريد وفدا إسرائيليّا إلى ندوة الدّول المتوسّطية حول البيئة، المنعقدة بتونس في شهر نوفمبر الماضي وحضرها 17 بلدًا. وقد رُفع العلم الإسرائيلي في النّدوة، وهي المرّة الأولى التي يظهر فيها للعموم بتونس. 

وقد زار تونس عدد كبير من المسئولين الإسرائيليين. والتقى فيها وزير الإسكان بن ــ أليزر برئيس منظمة التّحرير الفلسطينية عرفات في ديسمبر الماضي وقاد نائب وزير الشّؤون الخارجية بيلين وفدًا لإجراء محادثات متعدّدة الأطراف حول اللاّجئين في شهر أكتوبر الأخير".  

وفي 22 يناير 1996 صرّح كاتب الدّولة الأمريكي وارن كريستوفر قائلا : "لأوّل مرّة سوف تقيم إسرائيل وتونس علاقات رسمية تُسمّى ’مكاتب مصالح‘". وفتحت إسرائيل مكتبها بتونس في شهر أبريل للسّنة نفسها وبعد ذلك بستّة أسابيع وصل الدبلوماسي التّونسي خميّس الجهيناوي إلى إسرائيل لفتح مكتب مصالح لتونس بتل أبيب.

وبعد مرور شهر على اندلاع الانتفاضة الثّانية، في أكتوبر 2000، أعلن بن علي أنّه سيقطع كلّ العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل؛ غير أنّ الاتّصالات في الخفاء لم تنقطع أبدًا. وبعد خمس سنوات، في فبراير 2005، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون أنّه قَبِلَ دعوةً من الرّئيس بن علي لزيارة تونس بمناسبة القّمّة العالمية لمجتمع المعلومات (SMSI) تحت إشراف الأمم المتّحدة. وفي النّهاية كان سيلفان شالوم وزير الشّؤون الخارجية هو الذي مثّل بلاده في تلك القمّة؛ فقد أتى على متن طائرة خاصّة وكان ذاك أوّل خطّ مباشر في التّاريخ بين إسرائيل وتونس. وجاء في برقية لوكالة الأنباء الفرنسية أعادت نشرها "لوريون لي جور" (L’Orient-Le Jour) أنّ "طائرة السّيد شالوم حطّت يوم الثّلاثاء (15 نوفمبر 2005) بمطار جربة الدّولي حاملة 150 شخصًا كما صرّح بذلك للوكالة روني الطّرابلسي، ابن رئيس المجموعة اليهودية في جربة. وقد زار السّيّد شالوم بيعة الغريبة بجربة، أقدم مكان عبادة يهودي بإفريقيا، مصحوبا بأعضاء من عائلته التي تعود أصولها إلى مدينة قابس بالجنوب التّونسي. وقد عبّر السّيد الطّرابلسي الذي عوّض أباه بيريز الطّرابلسي المريض، عن "سعادة" اليهود التّونسيين باستقبال الوفد الإسرائيلي. وقد شارك الوفد بعد ذلك في حفل استقبال حضرهُ أعضاءُ المجموعة اليهودية، قبل أن يلتحق بالعاصمة. ومن المنتظر كذلك أن يقوم السّيّد شالوم بزيارة خاصّة إلى قابس مسقط رأسه". وبحسب المجلس التّمثيلي للمؤسّسات اليهودية بفرنسا (Crif) فإنّ الوفد ضمّ إلى جانب أمّه وأخيه، وزيرة الاتّصالات السّلكية واللاّسلكية داليا إيتزيك وهي قيادية في حزب شاس والنّائب البرلماني إيلي ييشاي وثلاثة رؤساء بلديات ورئيس المؤتمر اليهودي الأوروبي بيير بسنينو، ومايير حبيب، عضو الهيئة التّنفيذية للمجلس التّمثيلي للمؤسّسات اليهودية بفرنسا، وجيل طيّب، رئيس جمعية التّضامن مع إسرائيل (ASI)، إضافة إلى عدد من الدبلوماسيين والخبراء. 

ويعطي ذلك الحدث صورة عن أهمّ مواصفات التّطبيع التّونسي مع إسرائيل، وهو خليط من السّياسة والاتّجار المشبوه بين تونس وتل أبيب وباريس، الذي يسهّله اللّوبي الفرنسي الدّاعم للصّهيونية والمجموعة اليهودية ذات الأصول التّونسية. وتحت غطاء الاحتفاء بالذّاكرة والتّسامح، أصبح الحجّ إلى بيعة الغريبة بجربة أحد أهمّ الوسائل لذلك التّطبيع، وكان روني الطّرابلسي على مدى سنوات القائم على تنظيمه.

4 ـــ حول إرهاصات الثّورة التّونسية : من قفصة إلى غزّة

كان نظام بن علي يقمع أيّ تظاهرة معارضة لسياسته التّطبيعية المهرولة مع إسرائيل، ويمنع حتّى مجرّد التّصريحات المستنكرة لها. وفي 28 فيفري 2005 نشر المحامي محمد عبّو عضو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المعارض وغير المرخّص له، مقالا مندّدا بالدّعوة التي وجّهها بن علي لشارون، كتب فيه : "فالرّجلان تجمع بينهما عديد الصّفات، فكلاهما عسكري وكلاهما خبير في قمع الانتفاضات، بالإضافة إلى كون كلاهما قد ابتلى بتورّط عائلته في جرائم فساد مالي، زد على ذلك أنّهما في بحث متواصل عن الدّعم الدّولي". وحيث لم تستسغ السّلطات العمومية مثل تلك السّخرية المرهفة فقد تمّ اختطافه في الطّريق العام من قبل أعوان شرطة بالزّي المدني ليلة غرّة مارس 2005 وحكم عليه بثلاث سنوات وستة أشهر سجنا.

وقبيل الثّورة التّونسية، نشر الجامعيان العربي شويخة وفنسان جيسر مقالا (6) ذا أهمّية تاريخية حول الرّهانات التي تطرحها خلافة الرّئيس بن علي وتدهور المناخ الاجتماعي في تونس، وهو، على حدّ علمي، التّحليل السّياسي الوحيد الذي تنبّأ بتغيير قادم في البلاد. وخصّص الكاتبان قسمًا للتّعبئة الشّعبية الكبرى التي تلت العدوان الإسرائيلي على غزّة في ديسمبر 2009 واعتبروها امتدادا لانتفاضة الحوض المنجمي في قفصة (7) الحركة الاجتماعية الهامّة التي هزّت المنطقة المنجمية بالجنوب الغربي التّونسي طيلة ستة أشهر سنة 2008، ويُنظَرُ إليها اليوم كبداية لمسار أدّى، بعد سنتين، إلى قيام الثّورة التّونسية في موفّى سنة 2010.

وسواء حدث الأمر في عهد بورقيبة أو في عهد بن علي، فقد أنتجت المآسي العربية (النّزاع الإسرائيلي ــ الفلسطيني ؛ الإنتفاضة ؛ حرب الخليج ؛ اجتياح العراق) ارتدادات منتظمة على السّاحات الاحتجاجية التّونسية، بلغت أحيانا إلى حدّ تهديد استقرار النّظام. ويشير الكاتبان إلى "مسار معقّد لصدى يتجاوب بين المحلّي (تونس) والإقليمي (العالم العربي الإسلامي) والدولي (بقية العالم)" مفسّرين بذلك ما يعتمل من دوافع داخل الحركات التّعبوية التّونسيّة. وفي مناسبات متعدّدة، نجح النّظام في اختراق تظاهرات التّضامن العربي؛ فإبّان حرب الخليج الأولى (1991 ــ 1992) نظّم الحزب الموالي للرّئيس بمهارة حركة تضامن واسعة مع عراق صدّام حسين، بتأطير محكم من رجاله؛ غير أنّه هذه المرّة لم يفلح في توجيه الحركة الشّعبية المناهضة للعدوان على غزّة في ديسمبر 2009، وذلك لسببين على الأقل؛ أوّلهما أنّ بن علي، خلافًا لبداية حكمه، كان قد فقد مصداقيته بفعل سياسته القمعية وسعيه للتّطبيع مع إسرائيل. والسّبب الثّاني أنّ المجتمع المدني المكوّن من المعارضة المستقلّة وجمعيات حقوق الإنسان والهيئات المهنية ونقابات العمّال قد كوّن تنسيقيّة للجمعيات المستقلّة وأطلق نداءا مشتركا (نداء 19 جانفي) من أجل التّأطير الديمقراطي للتّضامن مع الشّعب الفلسطيني في غزّة  وخاصّة لسدّ الطّريق أمام محاولات الحزب الرّئاسي تجييره لصالحه.

ويشير شويخة وجيسر إلى أنّ "الاتّحادات الجهوية التّابعة لنقابة العمّال، الاتّحاد العام التّونسي للشّغل، كانت صاحبة المبادرة في الكثير من عمليّات التّعبئة المحلّية. ونظرا لكونها الأكثر تجذّرًا في الميدان ولحضورها القويّ بشريّا في الدّاخل، فقد ساهمت تلك الاتّحادات بنجاعة في هيكلة حركة شعبية تُنبئ بالدّور الاجتماعي والسياسي الذي يمكنها الاضطلاع به في مستقبل قريب بخصوص قضايا ذات صبغة "وطنيّة" أعمّ". لقد كان من اللاّفت أن ترفض الاتّحادات الجهوية للمنظّمة الشّغيلة احتضان الحركات الاحتجاجية في الحوض المنجمي بقفصة سنة 2008، لذلك فقد ساهمت، مستخلصة العبرة من أحداث قفصة، في المظاهرات الدّاعمة لغزّة سنة 2009، وسوف تعيد الكرّة بعد بضعة شهور بتأطير الثّورة التي أطاحت بنظام بن علي.

ويتّضح من ذلك أنّ التّعبئة الشّعبية ضدّ الحرب في غزّة سنة 2009، كانت قاعدة الانطلاق للثّورة التّونسية، وهو أمر قلّ ما لاحظته التّحاليل السّياسية حول "الرّبيع العربي".

5 ـــ القضيّة الفلسطينية في تونس ما بعد الثّورة

لقد كان مُنتَظَرًا أن يتباطأ التّطبيع التّونسي مع إسرائيل بعد سقوط بن علي، غير أنّ الأمر لم يكن كذلك. فهناك أحزاب كثيرة تستمرّ في تقديم الشّواهد لطمأنة القوى الغربية بخصوص هذا الموضوع، آمِلةً أن تُقبَلَ كشريكة "ذات مصداقية" لها، أو لتغنم منها القليل من الامتيازات المالية والاقتصادية في زمن تستشري فيه الأزمة. لقد دُعِيَ راشد الغنّوشي، رئيس الحزب النّهضة ذي الخلفية الإسلامية والرّئيس الحالي لمجلس النّوّاب في ماي 2013 إلى مركز صابان للسّياسة في الشّرق الأوسط ببروكينغز في الولايات المتّحدة. وحاييم صابان رجل أعمال أمريكي ــ إسرائيلي من أصول مصرية كان قد صرّح أنّ أكثر همّه هو حماية إسرائيل. وقد أكّد أنّ هناك ثلاث طرق للتّأثير في السّياسة الأمريكية : تقديم هبات للأحزاب السّياسية، إحداث مجمع تفكير (منها مركز بروكينغز المذكور) والتّحكّم في وسائل الإعلام. وقد تمّ تقديم الغنّوشي خلال تلك النّدوة من قِبَلِ مارتن إنديك، المدير المساعد للبحوث في لجنة الشّؤون العامّة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) أهمّ لوبي داعم للصّهيونية في الولايات المتّحدة، والسّفير الأمريكي السّابق بإسرائيل.

وقد شهدت فترة حكم الرّئيس السّابق الباجي قائد السّبسي، أحد ورثة نظام ما قبل الثّورة، عودة العناصر التي شاركت في حملة بن علي الصّهيونية إلى مناصب رئيسية في حكومة يوسف الشّاهد. فكان خميّس الجهيناوي وزيرا للخارجية وهو الدبلوماسي التي اختاره بن علي لفتح "مكتب مصالح" لتونس في تل أبيب سنة 1996، وعيِّن روني الطّرابلسي منظّم الخدمات السّياحية، وزيرا للسّياحة، وهو الذي استقبل وفد وزير الشّؤون الخارجية سيلفان شالوم في جربة سنة 2005، وأحد المنظّمين الرّئيسيين للحجّ إلى بيعة الغريبة اليهودية. 

أمّا صاحب الفضائح رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي فقد أمضى عقدا  بقيمة مليون دولار مع شركة تحشيد وضغط (lobbying)  كندية ديكنز و مادسن (Dickens & Madson) يديرها عميل الموساد الإسرائيلي السّابق آري بن ــ مناشي، بهدف مساعدته على الفوز في الانتخابات الرّئاسية لسنة 2019. وقد يكون الكشف عن ذلك العقد قبيل العملية الانتخابية ببضعة أسابيع من الأسباب التي أدّت إلى هزيمته فيها. 

إلى جانب تلك الفضائح السّياسية، تكشف منظّمات المجتمع المدني بانتظام قضايا تطبيع في كلّ المجالات (الاقتصاد، السياحة، الرّياضة...) وحتّى مؤسّسة البريد العمومية لم تُسْتَثْنى من الظّاهرة. وإلى هذا المـُتّجه التّطبيعي التّقليدي ينضاف آخر أقلّ ظهورا غير أنّه لا قلّ عنه خطرًا، ويهدف إلى كبح أيّ نزعة إلى الاعتراض لدى المجتمع المدني، وخاصّة لدى الشّباب. ويعمل هذا الدّافع على التّرويج للتطّبيع بذريعة مقاومة معاداة السّامية مثلما لوحظ ذلك في قضيّة "الرّابطة العالمية لمناهضة العنصرية ومعاداة السّاميّة" (LICRA) أو في المشاريع الهادفة إلى رفع التّحدّيات "البيئيّة" او " الامنية"  في منطقة البحر الأبيض المتوسّط، وكثير منها يموّله الاتّحاد الأوروبي. ونادرًا ما تتكَلَّلُ الحملات المندّدة بتلك الجهود المتسلّلة للتّطبيع بالنّجاح. والاستثناء الهام يتعلّق بالشّركة البحرية الإسرائيلية "زيم" (ZIM) التي أُجْبِرت على إيقاف رحلاتها إلى ميناء رادس سنة 2018، إثر حملة قادتها الحملة التّونسية للمقاطعة الأكاديمية والثّقافية لإسرائيل (TACBI) بالاشتراك مع الاتّحاد العام التّونسي للشّغل. غير أنّ ذلك النّجاح يظلّ نادر (8).

ومن جهة أخرى، لم تعد التظاهرات الشّعبية الدّاعمة للشّعب الفلسطيني تجتذب الكثير من النّاس في تونس ما بعد الثّورة. فقبل سنتين منها، سنة 2009، نزل مئات الآلاف من التّونسيين إلى الشّارع للتّنديد بالحرب الإسرائيلية على غزّة؛ وشملت حركة التّضامن الشّعبي معظم مناطق البلاد سواء منها المدن الكبرى أو المدن الدّاخلية. حتّى مدن الحوض المنجمي بقفصة التي عانت من عمليات القمع الدّامية سنة 2008

بادرت بدورها إلى تنظيم عدّة مسيرات تضامن مع أهالي غزّة مُتحدّية الحظر المقرّر من قِبَلِ وزارة الدّاخلية. وبعد ثلاث سنوات من الثّورة لم تجمع المظاهرات الشّعبيّة سوى بضع مئات من الأشخاص للتّنديد بالحرب الإسرائيلية على غزّة في صائفة 2014؛ ومع ذلك لم يكن الأهالي قد فقدوا طعم التّظاهر حيث كانت سنة 2013 حافلة بالمظاهرات ضدّ الائتلاف الحاكم بقيادة الحزب الإسلامي، للاحتجاج على اغتيال قائدي المعارضة اليسارية شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

ويمكن تفسير انجراف حركة التّضامن مع فلسطين في تونس ما بعد الثّورة بأمرين على الأقلّ؛ فمن ناحية وفي ظلّ اتّساع مجال العمل السّياسي، انشغل المناضلون القاعديون مثلهم مثل منظّمات المجتمع المدني، بالسّياسة الدّاخلية. فالقضيّة الفلسطينية التي كانت في عهد بن علي المتنفّس الوحيد المسموح به نسبيّا، أصبحت بعد الثّورة ذات أهمّية ثانويّة. إنّ هامش التّحرّك لإيجاد حلٍّ لهذه المشكلة يبدو محدودا نسبيّا؛ طبعًا يبقى الأمل قائما، على المدى المتوسّط، في أن يملّ ناشطو المجتمع المدني من رداءة السّاحة السّياسية المحلّية ويعاودهم الاهتمام بالقضيّة الفلسطينية حيث يكون لالتزامهم القدرة على تحريك الأوضاع. وقد يكون للحماس الذي يُلْمَسُ في الغرب لتلك القضيّة تأثير يجذب من هم أصغر سنًّا. ومن جهة أخرى كان للانتقال الديمقراطي وخاصّة لإقرار حريّة التّعبير والتّظاهر أثر مقلّص للتّجاوب التّقليدي بين القضيّة الفلسطينية وبين المطالب الاجتماعية والسّياسية للتّونسيين. غير أنّ تلك الظّاهرة تبشّر بإمكانات تحرّك جديدة،  إذ هناك أشكال أخرى من التّجاوب تنتظر من يحرّكها كما نبيّنه فيما يلي :

5 ـــ عدوّنا مشترك ونضالنا واحد

إنّ الصّيغة الجديدة للتّضامن مع الشّعب الفلسطيني يمكن أن تُطْرَح من خلال مفهوم التّقارب في الوجهة بين صيغ الكفاح ومفهوم التقاطع (intersectionality) ـــ تزامن الاضطهاد المتعدّد المظاهر أو المستويات المسلّط على الأشخاص في مجتمع ما. وقد اتّحضت وجاهة هذه المقاربة في الغرب بخصوص الأقليّات والمجموعات المضطهدة (السّود، الأهالي ذوو الأصول الإسبانية، المثليّون، المهاجرون). وتأتي قابلية تطبيقها على الحالة التّونسية من حيث أنّ أشكالا كثيرة من التّطبيع مع إسرائيل تُفاقم الفروق والممارسات الظّالمة المُسلّطة على بعض طبقات المجتمع، والمهدّدة في الوقت ذاته لأمن البلاد. ويمكن أن نلاحظ بسهولة تجاوبات جديدة في مجال المراقبة والأمن وفي مجال الزّراعة وهما قطاعان من بين الأكثر تطوّرا في إسرائيل، غير أنّه يوجَدُ أيضا إمكانات في قطاعات أخرى. 

وفي تقرير منشور بتاريخ 22 جوان 2020، كشفت منظّمة العفو الدّولية أنّ الشّركة الإسرائيلية للأمن المعلوماتي مجموعة (NSO Group) مكّنت المغرب من التّجسّس على الصّحفي المغربي عمر راضي. واكتشفت المنظّمة أنّ هاتفه كان هدفًا لاختراقات عدّة بواسطة تقنية جديدة تسمح، على نحو غير مرئي، بتثبيت برمجية "بيغاسوس" (Pegasus) للتّجسّس المـُنْتَجَة من قِبَلِ المجموعة المذكورة؛ واستُعْمِلَت تلك البرمجيّة في شنّ عدّة هجومات ضدّ صحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان وبرلمانيين في عديد البلدان. ولعلّها استُعمِلَتْ أيضا في اغتيال المـُنشقّ السّعودي جمال خاشقجي. وقد رفعت منصّة "واتساب" (WhatsApp) في شهر أكتوبر 2019 دعوى قضائيّة ضدّ مجموعة  NSO Group متّهمة إيّاها بالمساهمة، قصد التّجسّس، في قرصنة نحو مائة من حسابات مستعملي المنصّة، منهم، خاصّة، صحفيون ونشطاء في مجال حقوق الإنسان. وفي سبتمبر 2018، تعرّف مخبر "سيتيزن لاب" (Citizen Lab) التّابع لجامعة تورنتو على 45 بلدا، منهم تونس، قد يقوم فيها مُشغّلو البرمجية الجاسوسة بعمليات اختراق. ولاحظ باحثو المخبر "أنّ مشغّلاً يعمل على حِدة قد يبدو مركّزا على المغرب، ولكن بوسعه أيضا التّجسّس على أهداف داخل بلدان أخرى، خاصّة الجزائر وفرنسا وتونس" ومن جهة أخرى تٌسوّقُ مجموعة NSO Group أداة تحليل للبيانات الكبيرة تقول إنّها تتابع انتشار جائحة كوفيد ــ 19 بمراقبة تنقّلات الأشخاص على خريطة.

إنّ مجموعة NSO Group ليست شركة المراقبة الإسرائيلية الوحيدة التي تهدّد الحريّات الأساسية؛ فشركة التّعرّف البصري الإسرائيلية آني فيجن (AnyVision)  تستفيد من خروقات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين الإنسانية لتصدّر تكنولوجيتها الرّقابية القمعيّة في العالم أجمع؛ فتلك الشّركة لا تطرح أدواتها للاستعمال في نقاط الرّقابة العسكريّة بالضّفّة الغربية فقط ، وإنّما تتعهّد أيضا كاميراتٍ لحساب الجيش الإسرائيلي في قلب الضّفة بهدف التّجسّس على الفلسطينيين وتمكين الجيش، على نحو غير قانوني طبعا، من استهداف المدنيين. و للإشارة فإنّ من شركائها "هيولت باكارد انتربرايز" (Hewlett Packard Enterprise) ولها حضور بتونس وهي تزوّد مكتب الحالة المدنية لإسرائيل بالخوادم من أجل مراقبة الأهالي ــ وتلك من أعمدة منظومة "الأبارتهايد" الإسرائيلية ــ كما تستعمل HPE تكنولوجيا التّعرّف البصري لـشركة "آني فيجن" (AnyVision) في خوادمها الخاصّة.

إنّنا إذ نناضل ضدّ التّطبيع الإسرائيلي في تونس، إنّما ندافع عن حرّياتنا الأساسيّة ونعبّر في الحين ذاته عن تضامننا مع الشّعب الفلسطيني.

وهناك قطاع يحمل إمكانا تقاطعيا هامّا، وهو قطاع الزّراعة، وقد كان في صلب التّطبيع التّونسي مع إسرائيل منذ الاتّصالات السّريّة الأولى بين مبعوثي بورقيبة والإسرائيليين. ويروي لاسكييه ما قاله ممثّل المؤتمر اليهودي العالمي أ. إيسترمان لحبيب بورقيبة الابن من أنّ "إسرائيل معروفة في مستوى العالم بتطويرها لصناعات زراعية حديثة وإنّها مرّرت تجربتها وتقنياتها لعدد من البلدان الإفريقية، والحكومة الإسرائيلية جدّ مستعدّة لأن تضعها في خدمة تونس". ومعلوم أنّ التّقدّم الإسرائيلي تكنولوجيّا على العالم العربي قد زاد واتّسع خلال الخمسين سنة الماضية. ومن بين المؤسّسات الإسرائيلية الأكثر أهميّة، شركة "نيتافيم" (Netafim) في مجال الرّيّ و"زراعيم" (Zeraïm) و"هازيرا" (Hazera) اللتين تسوّقان البذور. مثل العديد من الشركات الإسرائيلية الأخرى، طوّرت هذه الشركات منذ عشر سنين إستراتيجية جديدة لمواجهة حملات حركة BDS المركّزة تتمثّلُ في بيع أغلبية أسهمها لمجموعات أو بنوك أجنبية مع الاحتفاظ بقسط من رأس المال واشتراط بقاء وحدات الإنتاج ونشاطات البحوث والتّطوير في إسرائيل. وتهدف تلك الإستراتيجية إلى الاحتفاظ بالسّيطرة على مجموعة ما، وعلى خبرتها و براءات اختراعها والاحتماء في الوقت ذاته من المقاطعة تحت مظلّة شركة متعدّدة الجنسيات.

تأسّست شركة "نيتافيم" في إطار كيبّوتز هاتزيريم الإسرائيلي سنة 1965، وهي الأولى دوليّا في مجال منظومات الرّيّ "قطرة قطرة"، وهي تكنولوجيا كانت قد اكتسبت فيها الرّيادة. وحسب موقع "نيتافيم" الإلكتروني، تُشغّل الشّركة 5000 شخص وتزوّد بتجهيزاتها وخدماتها زبائن في أكثر من 110 بلدًان منها تونس. وتمثّل هذه المؤسّسة اليوم أهمّ استثمار أجنبي مُعلن عنه بأنّه إسرائيلي في العالم العربي. وفي 2017، أنشأت "نيتافيم" فرعًا في المغرب قيمته 2,9 مليون دولار، ويؤمّن سبعة عشر موطن شغل. وفي شهر فيفري 2018 باع المالكون 80% من أسهمهم لمجموعة ميكسيشيم (Mexichem) المكسيكية للمنتوجات البترولية مقابل مليار ونصف من الدّولارات ؛ وينصّ الاتّفاق على أن يبقى مقرّ نيتافيم وما يتبعه كمركز النّشاط ومعامل الإنتاج الحاليّة ونشاطات البحث والتّطوير، في إسرائيل لِمدّة عشرين سنة على الأقلّ.

وفي صورة إشهارية منشورة على وسائل التّواصل الاجتماعي من قِبَلِ تاجر في المنتوجات الفلاحية في جهة القصرين من الوسط الغربي التّونسي، تظهر لفائف أغمدة "نيتافيم" ذات مقطّرات مُدمجة، آتية من إسبانيا. وتشير شهادة الجولان "Eur 1" الظّاهرة في الصّورة إلى أنّ تلك البضاعة قد دخلت إلى تونس متمتّعة برسوم جمركيّة مُخَفّضة (إن لم تكن دون رسوم أصلاً). وتُظهر صور أخرى واردات من تلك البضاعة ذاتها وصلت في فترة لاحقة. وتسيطر "نيتافيم" اليوم على قسط هامّ من السّوق التّونسية؛ ويستفيد من تكنولوجياتها للرّي قطرة قطرة، كبار المستغلّين الزّراعيين على حساب صغار الفلاّحين المحلّيين. زد على ذلك أنّها تعطي الأفضليّة لنمط إنتاج الزّراعة ذات المحصول الواحد الذي يولّد آثارًا جانبية كارثية على المحيط ويهدّد التّنوّع البيولوجي ويؤدّي إلى مخاطر اقتصادية واجتماعية كما أوضحه فريق العمل حول السّيادة الغذائية (GTSA) في تونس في تقرير ممتاز نُشِرَ أخيرًا. 

لقد وضعت الدّولة التّونسية منذ السّبعينات من القرن الماضي سياسات تجميع واقتصاد في المياه، خاصّة في القطاع الزّراعي (الذي يستهلك ما يقارب 80 % من الموارد المائية)؛ وقد نهضت خاصّة بتكنولوجيا الرّيّ قطرة قطرة وشجّعّتها بالإعفاء الضّريبي للتّجهيزات مع سهولة الحصول على التّمويلات والمنح حتّى 60 % من تكلفة الإنشاء. وقد شجّعت تلك الآليات رؤوس الأموال على الدّخول في القطاع الزّراعي. أمّا صغار المزارعين والمتوسّطين منهم فلا يمكنهم الحصول على تلك المنح لأسباب عدّة، خاصّة منها تعقّد وضعيّاتهم المالية (غياب شهادات الملكية وتجزّؤ قِطَع الأرض) و المديونية المفرطة. إضافةً إلى ذلك فإنّ معظم عمليات حفر صغار المزارعين للآبار غير قانونيّة ممّا يعيقها عن التّمتّع بمنح الدّولة. وفي المقابل فإنّه بإمكان المستثمرين في الزّراعة وكبار المُلاّك انتزاع رخص الحفر والاستفادة بكلّ الامتيازات النّاتجة عنها. وقد تسبّبت آليات التّشجيع تلك في توسيع المساحات المروية، إذ ارتفعت من 60.000 هكتار في ستينات القرن الماضي  إلى 450.000 سنة 2010، وذاك ما يعزّز نمط الانتاج ذي المحصول الواحد. ويستعمل المزارعون التّونسيون تقليديا منظومات بارعة وبالغة الاقتصاد في المياه، منها الزّراعة المنضّدة في واحات الجنوب التّونسي؛ وقد قضى نمط الإنتاج ذو المحصول الواحد الذي ساعدت عليه منظومة الرّي قطرة قطرة، على تلك الخبرة التّقليدية؛ وتمّ تطبيقها في البداية على الأعناب و البرتقال المالطي وتمور "دقلة نور" قبل أن تمتدّ إلى الزّياتين. وأخذت النّوعيات الأجنبيّة النّهمة في الماء مكان النّوعيّات المحلّيّة التي كانت زراعتها تعتمد تقليديّا على مياه الأمطار. وامتدّت اليوم زراعة الزّيتون ذات المحصول الواحد لتبلغ مناطق كانت مخصّصة تاريخيا للزّراعات الكبرى، مفاقمةً بذلك تراجع إنتاج الحبوب على المستوى الوطني. وقد أجبر انخراط تونس في زراعة البرتقال المالطي بطريقة المحصول الواحد، صغار المزارعين وأواسطهم في الوطن القبلي، على تغيير نمط إنتاجهم لتزويد المصدّرين للمنتوجات التّنافسية في السّوق الأوروبية. وقد كُرّس مجموع الموارد لتلك النّوعية ممّا أدّى إلى نهاية التّنوّع المميّز للزّراعة المحلّية. إنّ الرّجوع إلى نمط إنتاج أكثر تنوّعًا أمر بالغ الصّعوبة كما يشهد به مزارع من بني خلاّد إذ يقول :"لا تنزل جذور الشّجر عميقًا في الأرض بسبب تقنية القطرة قطرة، فهي تصعد إلى السّطح بحثًا عن الماء، ويغيّر ذلك شكل الشّجرة تغييرا بالغًا ويؤثّر في التّربة التي تصبح متتراصّة وفقيرة. إضافة إلى ذلك فنحن مع تثبيت معدّات القطرة قطرة، لم يعد بوسعنا الحراثة في أسفل الأشجار، فلا نزرع شيئا ولا نهوّئ التّربة". ومن جهة أخرى يستلزم نمط الرّيّ محليّا الاستعمال المفرط لموادّ كيميائية دخيلة مثل المبيدات الحشرية والفطرية والأسمدة ،إذ تُحْقَنُ المياه بها اليوم مباشرة. وسوف يُفاقم تناوب فترات الجفاف والفياضانات التي يُنْذِرُ بها تغيّر المناخ، من ظواهر الانجراف وترشيح التّربة، إذا لم تتغيّر البنية التّحتية والممارسات الزّراعية.

إنّ مقاومة تسلّل عملاق الزّراعة "نيتافليم" إلى تونس، يتيح إذن مكافحة الأضرار الجانبية التي تُسبّبها منظومته للرّيّ قطرة قطرة للبيئة وللتّنوّع البيولوجي وفي النّهاية لسيادتنا الغذائية. ومن صالح شبكة التّضامن مع فلسطين أن تشترك في الهدف النّضالي مع شبكة السّيادة الغذائية العاملة في شمال إفريقيا.

إنّ قطاعي المراقبة والزّراعة لا يفترقان، ففي سنة 2018، أطلقت نيتافيم منصّة "نت بيت" (NetBeat) المختصّة في الإدارة الذكيّة للرّيّ عن بعد والتي تتيح للمزارعين مراقبة منظومات الرّي وتحليلها عن بعد من خلال منصّة في شكل دائرة مغلقة منتجة لاستراتيجيات ريّ يوميّة حسب الطّلب وتوفّر معطيات آنيّة. ويتمّ تسويقها كــ "أوّل منظومة ريّ مزوّدة بعقل". وقد تمّ تطوير "عقل"  المنظومة على يد م برست (mPrest)، المزوّد العالمي المستقرّ في إسرائيل لِبرمجيات مراقبة البيانات الضّخمة (Big data) وتحليلها. وقد كان أن طوّرت شركة م برست سيستمز mPrest Systems (وهي فرع تمتلك نسبة (40%) منه الشّركة العسكريّة رافائيل أدفنست ديفنس سيستمز Rafael Advanced Defense Systems) برمجيّة تحكّم وتحليل لمنظومة الدّفاع الإسرائيليّة ضدّ الصّواريخ المعروفة بــ "القبّة الحديديّة"، ويُطلَقُ عليه غالبا "عقل القبّة". والمنظومة المذكورة جهاز دفاع ضدّ الصّواريخ قصيرة المدى طوّرتها مؤسّسة "رافائيل" المذكورة بالاشتراك مع إلتا وم برست ونُشِرت على طول قطاع غزّة المحاصر وفي هضبة الجولان السّورية المحتلّة. وتُعَدُّ برمجيّة التّحكّم والمراقبة للقبّة الحديدية  النتّاج المميّز لــ م برست وأصل القدر الأكبر من نجاحها التّجاري حسب كتيّبها الإشهاري  الذي جاء فيه : "لقد غنمنا مواقعنا في سوق الدّفاع ذي المتطلّبات العالية، بعد أن طوّرنا بعض تطبيقات التّحكّم والمراقبة الأكثر تقدّما وتعقيدا في مجال الصّناعة، بما في ذلك البرمجيّة المتحكّمة في منظومة الدّفاع ضدّ الصّواريخ الشّهيرة عالميّا. وسرعان ما انتبهنا لأنّ هذه التّكنولوجيا هي ما تحتاجها أسواق "إنترنت الأشياء الصّناعي" ( Industrial Internet of Things) من أجل التحويل الرّقمي. وخلال العشرية الأخيرة ركّزنا على تحويل إمكانات IIoT الدّفاعية الذّكية حسب الطّلب إلى تطبيقات تجارية ". أحدى هذه التطبيقات التجارية هي "نت بيت".

في شهر أكتوبر 1993، كتب إدوارد سعيد برؤية متبصّرة في مقاله "أوسلو...اليوم الموالي": "الواقع أنّ إسرائيل بمؤسّساتها المتطوّرة وعلاقاتها الوثيقة بالولايات المتّحدة و اقتصادها العدواني، سوف تحتوي اقتصاديا الأراضي (المحتلّة)، جاعلة إيّاها في وضع تبعيّة مستمرّة؛ ثم ستلتفت صوب العالم العربي على امتداده، مغتنمة الفوائد السّياسية للاتّفاق الفلسطيني كمنصّة انطلاق للدّخول إلى الأسواق العربية لاستغلالها والتّحكّم فيه على الأرجح". وقد تحققّ ذلك اليوم فعلاً.

 

------

(1) ينصّ هذا المخطّط الذي تصوّره الجنرال إيغال ألّون في شهر جوان 1967، أيّام كان نائبا لرئيس الحكومة الإسرائيلية، على ضمّ  إسرائيل للقدس ونواحيها ووادي الأردن وشرق الضّفّة الغربية.
(2) تانيا راينهارت ، "البانتوستانات: عصر المناطق الصفراء"، هآرتس، 27 مايو 1994.
(3) تانيا راينهارت ، "إسرائيل / فلسطين: كيف تنهي حرب 1948" ، Seven Stories Press (2002)؛ ترجمه إريك حزان إلى الفرنسية تحت عنوان "تدمير فلسطين أو كيفية إنهاء حرب 1948" ، La Fabrique  (2002).
(4) مايكل لاسكييه ، "إسرائيل والمغرب العربي في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي ، الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي" مراجعة الشرق الأوسط للشؤون الدولية ، المجلد. 4 ، ع 2 (يونيو 2000) ص. 96-108 ؛ و "إسرائيل والمغرب العربي: من الدولة إلى أوسلو" مطبعة جامعة فلوريدا ، 2004.
(5) American overseas interests act: private witnesses (Part II), Hearings before the Committee on International Relations, House of Representatives, one hundred fourth Congress, first session on H.R. 1561, April 4 and 5 1995.
(6) العربي شويخة وفنسان جيسر ، "نهاية المحرمات: القضايا المحيطة بخلافة الرئيس وتدهور المناخ الاجتماعي" ،  سنة المغرب العربي ، 6 | 2010، 375-413.
(7) العربي شويخة وإريك جوبي ، "تونس بين 'ثورة حوض قفصة المنجمي' والموعد النهائي للانتخابات 2009" ،سنة المغرب العربي ،  6 | 2009، 387-420
(8) من بين النجاحات الأخرى التي حققها مناهضو التطبيع في تونس، ندكر نجاحُ "الحملة التونسيّة لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ" في إقناع عدد من السينمائيّين التونسيّين بالانسحاب من مهرجان لوكارنو (سويسرا)، الذي خَصّص دورةَ سنة 2015 للاحتفاء بـ"السينما الاسرائيليّة"، و نجاحُ جمعيّة "قاومْ" في نفس السنة  في استصدار حكمٍ قضائيّ ألغى رحلات "سياحة دينيّة" كانت تنظّمها بعضُ وكالات الأسفار إلى القدس المحتلّة.


انشر/ي

ابقوا على اطلاع

قم بالتسجيل للحصول على آخر أخبار المقاطعة والحملات والتحركات

Subscribe Now